بقلم المحامي عصام عودة
1 صموئيل 22: 1-3:
“1 فذهب داود من هناك ونجا الى مغارة عدلام. فلما سمع اخوته وجميع بيت أبيه نزلوا إليه الى هناك. 2 واجتمع اليه كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مر النفس فكان عليهم رئيسا وكان معه نحو أربع مئة رجل.“.
تقع مغارة عدلام على بعد حوالي 20 كيلو مترا جنوب غرب بيت لحم، في وادي يدعى وادي أيلة، وقد هرب إليها داود من وجه شاول، بعد أن تأكد ان شاول مزمع أن يقتله ويتخلص منه.
قبل هذا الهروب كان داود يعيش في بيت الملكية مع شاول، وكان صديقا حميما ليوناثان ابن شاول، يأكل على مائدة الملك، يعزف للملك، وكان قائد الجيش الذي حارب بكل شجاعة من انتصار لآخر باتكاله على الله.
في الوقت الذي كان داود في بيت الملكية، غالبا ما قد ننسى ان صموئيل كان قد مسحه ملكا على الشعب بأمر من الله بعد أن رفض الله شاول بسبب عصيانه وتمرده وكبرياء قلبه (1 صم 16)، ومع ذلك لم يحاول داود أن يطرد شاول من الملك، عالما ومؤمنا أنه سيأتي اليوم الذي فيه سيجلس ملكا مكان شاول بالطريقة والوقت اللذان يختارهما الله.
بينما كان داود ما زال في بيت الملكية، اي في ريش النعام، كانت هناك عدة محاولات لقتله على يد شاول، وذلك بسبب ان شاول حسده لنجاحاته وانتصاراته ونظرا لأن الله رفض شاول من الملك ففارقه، وكل ذلك ادى الى ان شاول شعر ان كرسي ملكه مهدد من داود، وكان يوناثان بمثابة المحامي عن داود، ولكن لفترة لم تدم طويلا.
بقي الوضع على هذا الحال إلى أن تأكد داود أن شاول مزمع أن يقتله لا محالة، وعندما أخبر داود يوناثان بذلك استبعد الأخير الامر، وبعد فحص الموضوع علم يوناثان أيضا أن اباه عازم على قتل داود لا محالة (1 صم 21)، وما كان من داود الا ان يترك ريش النعام ليهرب إلى مغارة عدلام كما هو مكتوب في القطعة المقتبسة أعلاه.
بعد أن يهرب داود الى مغارة عدلام يحدث امر يبدو غريبا، إذ يجتمع اليه كل رجل متضايق وكل من كان عليه دين وكل رجل مر النفس فكان عليهم رئيسا وكان معه نحو أربع مئة رجل. هذا المشهد يبدو غريبا للغاية، مقابل مشهد الملك شاول، فداود قابع في مغارة في واد ناء، مهددا بالقتل ومهدور الدم من شاول، بلا طعام او شراب او سرير لينام عليه، ومحاط بشرذمة قليلة من المساكين والمديونين ومري النفس، مع انه فعل كل خير مع شاول وأنقذ المملكة من طغيان جيليات، ومع انه ممسوح ملكا، بينما شاول جالس على عرش الملكية في راحة كاملة، محاط بالخدم والحشم والمأكولات الشهية، مدعوما من جيش يعد عشرات بل ومئات من الالاف، فيبدو انه لا ينقصه شيء سوى انه يريد أن يقتل داود، فيلاحقه ويبقى يلاحقه إلى اخر يوم في حياته بعد أن انهزم وسقط في الحرب.
في هذين المشهدين نرى صورتين من الخدمة والخدام، للوهلة الأولى تبدوان متشابهتان ومتناسقتان، بالذات عندما كان داود ما زال في بيت الملك على مائدة شاول ويوناثان إبنه، ولكن مع مرور الوقت يظهر الفرق واضحا بينهما، لأن اتجاه كل من الخدمتين مختلفان بل ومتناقضان تماما.
هناك من يخدم خدمة شاول، شعارها السلوك بالجسد، والتي تركز على الذات والكرسي والمادة والقوة والسيطرة والمركز والمال، واضعة أطرا روحية ومزينة وجميلة لهذه الخدمات لإخفاء كونها خدمة الجسد، والمحفَّزة بدوافع الحسد والشعور بالتهديد من الاخرين، مركزة انظارها على الآخرين كي لا يفلحوا في خدمتهم لئلا تتحول عنهم الانظار، كما حصل مع داود عندما هتف الشعب قائلا: “ضرب شاول الوفه وداود ربواته” (1 صم 18: 7)، وكما حصل مع الفريسيين عندما تحولت الانظار عنهم وتبع الجموع الرب، فاسلموا الرب حسدا وقتلوه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى خدمة داود التي كان شعارها السلوك بالروح، عالما أنه حتى لو كان خادما ممسوحا من الله، يستعمل سلطانه بكل تواضع وتسليم كامل للرب، فحتى لو شُتم لا يشتم عوضا، وإذا تألم لا يهدد، بل يسلم دائما لمن يقضي بعدل (1 بطرس 2: 23)، متعاملا مع الأمور والآخرين بمحبة وحكمة وتواضع، تاركا نظرة الحسد وراءه وناظرا إلى رئيس الإيمان ومكمله الرب يسوع.
هذا النوع من الخدمة هو بمقدار كبير من العمق، هو السباحة في مياه نهر سباحة لا يعبر، هو أن أخدم الرب ولسان حالي: “من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادما”، كما قال الرب لتلاميذه، وهو أن أخدم ليس بدافع الشعور بالتهديد من الآخرين، أو الشعور بالنقص او الذنب او بدافع الحسد والغيرة القاتلة، بل بدافع محبتي للرب من كل القلب والنفس والفكر والقدرة، هي هي الوصية الأولى والاعظم، وبالتالي بدافع حبي للنفوس كي لا تهلك.
من المهم أن ندرك أنه كون شاول في عرش الملكية “صامدا” لسنين طويلة، دامت 40 عاما، ويعيش في “ريش النعام” بين الخدم والحشم، قائد لمملكة كبيرة من أقوى الممالك آنذاك، لا يعني أنه كان بحسب قلب الرب، لكن ذلك بسبب لطف الله وإمهاله فرصا كثيرة لشاول كي يرتدع عن عصيانه وتمرده وسلوكه بالجسد، وللأسف فقد أضاع شاول كل هذي الفرص وكانت نهايته أليمة.
السؤال من أي فريق نحن، بأي دافع نخدم أو ما الذي بالضبط نخدمه، وقبل ذلك لماذا نتبع الرب، هل لتحقيق مآرب لدينا لتسد رمق جوعنا الأرضي أو غرورنا أو ذاتنا، أو بدافع الشعور بالتهديد من الآخرين كي لا يأخذوا مكاني، وهل الرب أو الكنيسة هما بمثابة منبر لتحقيق طموحات لدينا أو حب الظهور وإشباع آفة الكبرياء أو الشعور بالنقص أو حب المال أو المركز أو الشهرة، أم نتبع الرب لأننا نحبه، لأنه مخلصنا وفادينا الذي أحبنا أولا وبذل نفسه لأجلنا، عندها سنكون بقرب قلبه وسنخدم كما يقودنا، أينما كنا ومهما عملنا، حتى لو في “مغارة عدلام”، ليكون هو كفايتنا، فننال الرضى الإلهي منه ونكون بحسب قلبه كما كان داود.
لنحاسب أنفسنا أولا ولا ننظر للآخرين وندينهم، ولنصل مع داود: “اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف افكاري، وانظر ان كان في طريق باطل واهدني طريقا ابديا”.