الرئيسية / مجلة الناصرة الأكاديمية / الوباء في الكتاب المقدس – بقلم القس الدكتور حنا كتناشو

الوباء في الكتاب المقدس – بقلم القس الدكتور حنا كتناشو

مقدمةٌ عن علاقةِ الطَّبيعة بالإنسانِ من منظورٍ لاهوتيٍّ

يفسّر لنا الكتابُ المقدَّسُ علاقةَ الطَّبيعة مع الإنسان من منظورٍ لاهوتي. ولا يستبدل هذا المنظور التَّفسيرَ العلمـي أو يُهمِّشَه، بل يُركّز على زوايا أخرى تُهملها العلومُ الطَّبيعيةُ. فيجب على المؤمنِ بالله لا أنْ يأخذ التَّفسيرَ العلمـيَّ فحسب بل أنْ يسعى أيضاً إلى فهمِ التَّفسير اللّاهوتي. وتشترك العلومُ الطَّبيعيةُ والعلومُ اللاهوتيةُ معاً في إرشاد الإنسان إلى الحقِ الإلهـي. 

وبينما يتحدَّث العلماءُ عن تفشـي الوباء من منظورٍ علمـي فيفحصون أسبابَه وطرقَ انتشاره واللُّقاح اللَّازم لعلاجه، يتحدَّثُ اللَّاهوتيونَ عن علاقةِ الله مع الإنسان ومع الطَّبيعة وعن التَّوبة والدَّينونة وقضايا مشابهة. وكما يخطئ العلماءُ في الفحص والتّـقييم يَزِلّ اللّاهوتيونَ والمفسرونَ في فهم موقفِ الله وفي تحديد السُّلوكِ البشري المطلوبِ زمنَ الأوبئةِ. ويعتمد العلمُ الصَّحيحُ على مفهومٍ صـحيحٍ للعلوم الطّبيعية. كذلك يجب أن يستند اللَّاهوتُ الصَّـحيحُ إلى العلومِ اللّاهوتية الصَّـحيحة. 

ويتمركز في بؤرة اللَّاهوت الصَّـحيح فهمُنا لطبيعة الله ولخطة الخلاص المعلنة في كلمته من سفر التَّكوين وحتَّـى سفر الرؤيا. وعادةً يدعو اللاهوتيونَ دراسة كلمة الله المتسلسلة أو المتعاقبة لموضوعٍ محددٍ باللَّاهوت الكتابي. وبشكلٍ أدق سنسعى إلى وضع مقدمةٍ قصيرةٍ للاهوت الأوبئة في الكتاب المقدس. وسنعرض تسعَ شخصياتٍ كتابية تعاملت مع الأوبئة أو تحدثت عنها. والشَّخصيات هي موسى، هارون، فينحاس، داود، السَّيد المسيح، بولس، بطرس، يهوذا، ويوحنَّا. أربعة في العهد القديم وأربعة في العهد الجديد يتوسطها ربنا يسوع المسيح. وسنضع دراستَنا في حوارٍ مع فهمنا لطبيعة الله ولحكمة الكنيسة ودعوتها آملين أن نستنبط بعضَ المبادئِ اللَّاهوتية الَّتـي قد تُعيننا في التَّعامل مع وباء الكورونا في عصرنا.

بكلمات أخرى، تُؤثِّر علاقةُ الإنسان مع الله على كلِّ العلاقات الأخرى سواءً أكانت مع الإنسان الآخر أم الملائكة أم الشَّياطين أم الحيوانات أم الطَّبيعة الَّتـي خلقها اللهُ. ولقد بدأت العداوةُ بين الإنسان والطَّبيعة منذ سقوط آدمَ وحواءَ في الخطيئة. عندئذٍ أخرجت الأرضُ شوكاً وحسكاً (تكوين 3: 18). ثمَّ جاء الطُّوفانُ ليدمِّر البشريةَ زمنَ نوحَ (تكوين 6 – 8). وحدث جوعٌ في الأرض زمنَ إبراهيمَ (تكوين 12: 10) وأيضاً عندما كان يوسفُ في مصرَ (تكوين 41: 54) وفي زمن راعوث (راعوث 1: 1) وزمن إيليا (1 ملوك 18: 2) وأليشع (2 ملوك 4: 38؛ 6: 25) وزمن الكنيسة الأولى (أعمال 11: 28) وفي أزمنة أخرى. وربما انفجرت البـراكينُ زمن لوطَ. ويُعْلِمُنا النَّصُ المقدَّسُ أنَّ السَّماءَ أمطرت ناراً وكبريتاً في زمنه. وجاءت الضَّرباتُ زمن فرعون. فظهرت كلمةُ “وبأ” (דבר) في الكتاب المقدَّس. وضربت الأوبئةُ أرضَ مصرَ. إنَّ معاداةَ الطَّبيعة للإنسان مرتبطٌة بالخطيئة، واستقرار الطَّبيعة مرتبطٌ بخطة الله للخلاص. والآلام الَّتـي تسبّبها الطَّبيعةُ بدأت بسبب سقوط الإنسان في الخطيئة وعصيانه لله. وصلاح الله ظهر منذ البداية بصبره ومحبته وخطة الخلاص للإنسان وللطبيعة. وتسير الخطةُ نحو سفر الرؤيا حيث سنـرى سماءً جديدةً وأرضاً جديدةً بدون موت أو مرض أو لعنة. وسيعالج اللهُ المشكلةَ الحقيقةَ وليس الأعراض فقط، فالمشكة هي الخطيئةُ. وثمن علاجها دم المسيح. قدَّمَ محبُ البشر الصالح ابنَه الوحيد ليفدي الخليقة. فصلاح الله ظهر في محبة الصّليب حين عالج اللهُ مشكلةَ الإنسان والطبيعةَ ومشاكلَ الخليقة كلّها بحبٍ إلهيٍّ عجيبٍ. ولكنَّنا مازلنا نعيش بين الصَّليب والمجيء الثَّاني نعاني من الأعراض ومن موت الخليقة السَّاقطة منتظرين قدوم الخليقة الجديدة الَّتـي بزغ فجرُها في المسيح. ويستخدم اللهُ آلام هذا الزَّمان ليقودنا إلى الصَّليب ونستقبل هناك عالمَ القيامة الَّذي يخلو من المرض والحزن والغم والموت واللَّعنة وهيجان الطبيعة.

ولقد استخدم اللهُ عبـر التَّاريخ البشري أحكامَه الأربعة الشَّديدة وهي الحرب والجوع والوحش الضاري والوباء (حزقيال 14: 21) ليقود الإنسان إلى لقاء الله محب البشر ومخلّص الخليقة. وتتكرّر كلماتُ “السيف والجوع والوباء” في كثيـر من المراجع الكتابية لتُبـرز التـزامَ الله بالعدالة والقداسة. ويُعلن النَّبـي إشعياء أنَّ كلَّ الأرض ستنوح وتذبل (إشعياء 24: 1) ويُغلقُ كلُّ بيتٍ (إشعياء 24: 10) ويُجمع الملوكُ كأسرى في سـجنٍ ويُغلق عليهم في حبسٍ لأنَّ الأرضَ تدنّست وتعدَّت الشَّرائع الإلهية (إشعياء 24: 5، 22). ويقول النبـي إرميا أنَّ الله سيؤدّب شعبَه بالسّيف والجوع والوباء (إرميا 14: 12). وهكذا يستخدم اللهُ الطَّبيعةَ وعزل الإنسان لإعلان الدَّينونة وللتَّحذير ولقيادة الإنسان إلى أحضان الله. ويظهر الرَّب بصورة الضارب والمحاسب على الرجاسات (حزقيال 7: 9). و في ذات الوقت تَظهر الضرباتُ الإلهيةُ لتُعطي الإنسانَ فرصةً للتَّوبةِ. فعلى سبيل المثالِ لا الحصر أعلن اللهُ لسليمانَ أنَّ الضرباتِ الإلهيةَ تنحصر وتتوقف عندما يصلّي الشَّعبُ وعندما يتوبوا عن طرقهم الشِّريرة (2 أخبار 7: 13). الطَّبيعةُ بهدوئها تمجّد اللهَ وتُخبـر بعمل يديه. الوردة تذكِّرنا بالله الَّذي يعطينا الثياب وتذكّرنا الطيور بالله الَّذي يعتني بنا. وتتحرك النُّجوم لتقودنا إلى طفل المغارة. وأحياناً أخرى، تضطرب الطَّبيعةُ لتُحذرنا وتذكّرنا بأنَّ عالمَنا ساقطٌ فنرفع أنظارَنا إلى إله السَّماء وننتظر مجيءَ عالمِ القيامةِ والدَّهر الآتي حيث لا موت ولا لعنة ولا مرض ولا وبأ.

الوباء في العهد القديم

ولقد ظهر الوباءُ في عددٍ من قصص ومراجع الكتاب المقدَّس. والوباء هو مرضٌ يصيب الكائنات الحية وينتشر بسرعةٍ فوق معدلاته الطَّبيعية. ولقد ظهر الوباءُ في قصة تحرير الشَّعب من العبودية. وكان الوباءُ أداةً في يد الله لتحذير فرعونَ ولتشجيع شعبَ الله. فصار النَّبـي موسى المُحذِّر والمتكلّم باسم الله. وأظهرَ الوباءُ زمنَ فرعونَ عظمةَ الخالق وتفوّقه على الجميع. لم تستطع كلُّ قوة فرعون وكلُّ حكمة المصريين وكلُّ آلهة مصر أن تحدَّ الأوبئةَ أو الطَّبيعة الهائجة. أراد اللهُ أن يتوقف ظلمُ الشُّعوب وقتلُ الأطفال واستعبادُ البشر. أراد اللهُ أن يعلن أنَّه المحامي عن شعبه والمدافع عن المظلومين. لقد تحدى اللهُ العنفَ السِّياسيَّ والقوانينَ الظالمةَ فأرسل الوباءَ ليُعلن أنَّه إله التَّحرير. كان الوباءُ وسيلةً للتَّحذير وللدّينونة وللدّعوة إلى التَّوبةِ وللتَّأمل في العدالة الاجتماعية والسِّياسية من منظورٍ إلهـي. أيضاً، كان الوباءُ تأكيداً يُعبّـر عن التـزام الله نحو شعبه. فهو المخلّص الّذي يُحارب عنهم. وكان هذا النَّوع من الوباء انتقائياً فلم يمرض شعبُ موسى بل أصابَ المرضُ أهلَ مِصرَ فقط. 

ولا يصيب الوباءُ الأعداءَ فحسب بل يضرب أيضاً شعبَ موسى. فعندما يتمرد الشّعبُ ضدَّ الله يكون الوباءُ نصيبهم (لاويين 26: 25). والوباءُ هو من لعنات عصيان شعب الله (تثنية 28: 21). فبعد خروج شعب موسى من مصرَ وبعد تجسّسهم لأرض كنعان خاف الشّعبُ أنْ يدخلَ الأرضَ. فتذمّروا على موسى وهارونَ وأهانوا اللهَ المُحرِّر. وقرَّروا أن يرجموا موسى وهارونَ (عدد 14: 10). فقال الرَّبُ: “حتَّـى متـى يُهيننـي هذا الشَّعب؟ وحتَّى متى لا يصدقونني بجميع الآيات الَّتي عملت في وسطهم؟ إني أضربهم بالوبإ وأبيدهم” (عدد 14: 12). فتشفَّع النَّبـي موسى من أجل الشَّعب واسترحم اللهَ. ولكنَّ الشَّعبَ تذمَّر على موسى وهارونَ أكثـر من مرةٍ (عدد 16: 41). 

وأراد الشَّعبُ أن يقتلَ ممثلي الرَّب وخدامه فضربهم الرَّبُ بوبإٍ. وهنا تدَّخل رئيسُ الكهنة هارونُ وقدَّم بخوراً ليرتّد سـخطُ الله. لقد ركض الكاهنُ هارونُ مع مبخرته ووقف بين الموتى والأحياء فامتنع الوباءُ بعد أنْ مات أربعةُ عشر ألفاً وسبعُ مئة شخص (عدد 16: 47 – 49). عَبَّـرَ هارونُ عن مسامحته لمن أرادوا قتله وعن ثقتِه الكاملةِ باللهِ الغفورِ وسعى إلى حمايةِ من حاولوا قتله وطلبَ خلاصَهم وليس دينونتهم. وهكذا صار الوباءُ زمناً للخلاص وللغفران. فتعانق الغضبُ الإلهـيُّ مع الحب الرّباني. وتعانق هارونُ مع الَّذين أرادوا قتله. وهكذا ظهر الغضبُ ضدَّ الخطيئةِ وعانق الحبُ الخطاةَ.

لقد نجا الشَّعبُ بسبب شفاعة هارون، ولكنَّهم أخطأوا عندما زنى الشَّعبُ مع بنات موآب وعبدوا آلهتهن (عدد 25: 1). فضرب الرَّبُ الشَّعبَ بوبإٍ ومات أربعةٌ وعشرون ألفاً (عدد 25: 9). توقف الوباءُ هذه المرة بسبب الكاهن فينحاس بن العازر بن هارون. تحدّى فينحاسُ العبادةَ الوثنية وأوقفها بالطُّرق المُتاحة في منظومة الحُكم الثّيوقراطي. فردّ فينحاسُ سخطَ الله لأنَّه غار للرَّب. الوباءُ زمنٌ للتخلص من الوثنية والعبادات المرفوضة.

ودخل شعبُ موسى أرضَ كنعان وعاشوا عصر القضاة. وفي زمن صموئيل آخر القضاة خسر شعبُ موسى الحرب أمام الفلستيين. وخسروا أيضا تابوت الرَّب. أخذه الفلستيون فضربهم اللهُ بالبواسيرِ. اضطربوا وخافوا من الموت فصرخوا إلى السّماء (1 صموئيل 5). وقرروا ألا يقسّوا قلوبَهم كما أغلظ فرعونُ قلبَه (1 صموئيل 6: 6). وهكذا نجد أن مقدسات الله لها رهبةُ السّماء. فيجب تقديم الاحتـرام لإله الأرض والسَّماء ويجب التَّعامل مع حضوره بهيبةٍ وقداسةٍ. وهكذا أوقف قادةُ الفلستيين الضَّربةَ عندما ردوا المسلوبَ وقدّموا الاحترام اللائقَ للمقدسات ولله.

وينتمي الملكُ داود أيضاً إلى مجموعة القادةِ الَّذين أوقفوا الأوبئةَ. بينما وجدنا في قصة موسى دور القائد المتشفع الذي أوقف الوباءَ ووجدنا في هارون الكاهن حامل مبخرة الغفران وفي الكاهن فينحاس القائد الغيور على قداسة الله وشعبه نجد في قصة الملك داود قائداً يُسبب الوباء (2 صموئيل 24). أراد داودُ إحصاء الشّعب (1 أخ 21: 2). وأظهرت النتائجُ أنَّ اهتمام الملك ينصبُّ في قوته العسكرية. فنتيجة الإحصاء هي ثمانُ مئة ألف رجلٍ ذي بأسٍ مستلّ السَّيف وخمسُ مئة ألف رجلٍ من يهوذا (2 صموئيل 24: 9). ليس مستغرباً أن يُبـرزُ النَّصُ الرّجالَ وطاقتهم العسكرية. 

للأسف لم يبحث القائدُ داود عن الأرامل والأيتام بل بحث عن جبـروتٍ عسكري لتتوسع مملكته. اكتشف داودُ خطأه. وبسببه جاء وبأٌ في الأرض. فمات سبعون ألف رجلٍ. ثمَّ تشفّع داودُ قائلاً: “أنا أخطأت، وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟ فلتكن يدك علي وعلى بيت أبي” (2 صموئيل 24: 17). لقد جاء الوباءُ بسبب الكبرياء العسكري واستثمار الجهد والمال في سبيل نشر الاطمئنان بواسطة السّلاح بدلاً من نشره بواسطة الرّحمة والعدالة. وظهر نبـيٌ اسمه جاد وطلبَ من الملك داود أن يكون نموذجاً في عبادة الرَّب. فصلّى داودُ واستجاب الربُ وأوقف الوباءَ. وهكذا تعلّم سليمانُ أنَّه يستطيع أنْ يُوقف الوباءَ بالتَّوجه لله (1 ملوك 8: 37 – 40). 

وعانى الشَّعبُ من الطَّبيعةِ زمنَ يوئيل بسبب الجراد. أكلَ الجرادُ النباتات وعفّنت الحبوبُ (يوئيل 1: 17) وجفَّت جداولُ المياه (يوئيل 1: 20). ويطلب النَّبـيُّ يوئيل من الشَّعبِ أنْ يرجعوا للرَّب لأنَّه رؤوفٌ ورحيمٌ وبطيءُ الغضبِ وكثيـرُ الرَّأفةِ. وهكذا صارت ضربةُ الجراد تحذيراً إلهياً ودعوةً للتَّوبة. 

الوباء في العهد الجديد

وعندما جاء العهدُ الجديد، استمر الحديثُ عن الأمراضِ المتفشيةِ ولكنَّ الطبيعة استقبلت خالقَها الملك المتأنّس ومحب البشر. وكان الشّفاءُ إحدى علامات الملكوت ودليلاً على بزوغ حضارة المحبة. فكان يسوعُ، له المجد، يطوف كلَّ الجليل ويُعلّم في مجامع اليهود ويكرز ببشارةِ الملكوت ويشفي كلَّ مرضٍ (متـى 4: 23). وامتدت سلطةُ الشّفاء لتلاميذ المسيح (متى 10: 8؛ أعمال 19: 12). فكان الشَّعبُ يحملون المرضى للرسل (أعمال 5: 15). وأمر المسيحُ الرّياحَ والأمواجَ ليُعلن سلطانَه على الطَّبيعة (متـى 8: 26). وقال أنَّه ستكون زلازلٌ ومجاعاتٌ وأوبئةٌ (λοιμοι) وعلاماتٌ في النُّجوم والكواكبِ (لوقا 21: 11). وسيتبعها ولادةُ عالمٍ جديدٍ تسود فيه المحبةُ. ويصبح الشَّرُ منقرضاً وينتهـي وجودُ الخطيئةِ وتأثيـرها على الطَّبيعة والإنسان وعلى كلّ الخليقة. ويخبـرنا الرَّبُ يسوع المسيح أنّ اضطرابات الطَّبيعة في هذا الدَّهر فرصةٌ لمشاركة الإيمان المسيحي ونشر الرَّجاء بقدوم الدَّهر الآتي. فيطلب منا ألّا نقلق وأن نصبر وأن نهربَ من الشَّر (لوقا 21: 14 – 21).  

ويذكر الرَّسولُ بولس الوباءَ الَّذي جاء نتيجة خيانة شعب موسى للرَّب عندما زنوا مع بنات موآب. فلقد اقتـرح بلعامُ إغواء شعب موسى ببنات موآب وعبادتهن الوثنية (عدد 31: 16). وعندما يتحدَّث الرَّسولُ بولس عن الوباء، يقول: 

ولا نزن كما زنى أناسٌ منهم، فسقط في يومٍ واحدٍ ثلاثة وعشرون ألفا. ولا نُجرّب المسيح كما جرَّب أيضا أناسٌ منهم، فأهلكتهم الحياتُ. ولا تتذمّروا كما تذمّر أيضاً أناسٌ منهم، فأهلكهم المهلكُ. فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، كُتبت لإنذارنا نحن الَّذين انتهت إلينا أواخرُ الأمور. إذاً من يظن أنّه قائم فلينظر أن لا يسقط. لم تصبكم تجربةٌ إلا بشرية. ولكنَّ اللهَ أمينٌ، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا. لذلك يا أحبائي اهربوا من عبادة الأوثان (1 كورنثوس 10: 8 – 14). 

يذكر الرسولُ بولس الوباءَ الَّذي ضربَ شعبَ موسى في العهد القديم، ثمَّ يطلب عدةَ أمورٍ من أتباع المسيح. أولاً، التأملُ في الأوبئةِ يجب أن يقودنا إلى الهروب من عبادة الأوثان وإلى عبادة الله وحده. ثانياً، الوباءُ إنذارٌ للبشر ودعوةٌ للرجوع إلى الله. ثالثاً، الوباءُ دعوةٌ للقداسة وعدم السُّقوط في الخطيئة. رابعاً، الوباءُ دعوةٌ للثّقة بأمانةِ الله وبمعرفته لمقدار تحمّلنا. ونثق أنَّه سيُمكِّنُنا من الاحتمال ومن الوصول إلى المنفذ. 

ويُعلِّق الرسولُ بطرس على خيانة بلعام قائلاً: “قد تركوا الطَّريقَ المستقيم، فضلُّوا، تابعين طريق بلعام بن بصور الَّذي أحب أجرةَ الإثم” (2 بطرس 2: 15). إنَّ التَّأملَ في الوباء في قصة بلعام يقود الرَّسول بطرس إلى التشديد على ولائنا للرّب وعدم الانجرار وراء الشهوات. وتُعلّق رسالة يهوذا على ذات الأحداث التـي ارتبطت بالأوبئة وبهيجان الطَّبيعة ضدَّ البشر. فيقول لنا أنَّ البشرَ استهانوا بالسّيادة الإلهيةِ وساروا في طريق بلعام. فكلّ من يستهين بالسّيادة الإلهية سيكون تحت الدّينونة الإلهية. 

وفي نهاية الأسفار المقدّسة، نأتي إلى سفر الرؤيا الّذي يحوي الكثيـرَ من الضّربات الإلهية. ويصل الشَّرُ ذروته في قلوب البشر وفي أحضان الطَّبيعة الغاضبة، ولكنَّ رحمةَ اللهِ أقوى وأعظم من الشَّر. فمُحب البشر هو الخروف المذبوح الَّذي يؤسس في قلوبنا رجاءَ القيامة ومجيء ملكوت الله والسَّماء الجديدة والأرض الجديدة. ويتحدَّث الرَّسولُ يوحنا إلى الكنائس السّبعة ولقد ذكر في إحدى الكنائس بلعام الَّذي علّم بالاق أن يلقي معثـرة أمام بنـي إسرائيل (رؤيا 2: 14). وكانت النتيجةُ الوباء في إسرائيل. ونجد في طيات سفر الرؤيا سبع رسائل (1: 9 – 3: 22)، سبعة ختوم (4: 1 – 7: 17)، سبعة أبواق وسبع وضربات (8: 1 – 11: 14)، سبع آيات (11: 15 – 14: 20)، سبع جامات غضب (15: 1 – 16: 17 أ)، سبعة أصوات في السَّماء (16: 17ب – 19: 5)، وسبع رؤى (19: 6 – 22: 5). ولا شكَّ أنَّ السِّفرَ يحوي الكثيـرَ من الاضطرابات الفلكية والمجاعات والأوبئة مثل الدّمامل الخبيثة (رؤيا 16: 2). هذه الضربات دليلٌ على أنَّنا نحيا في الأزمنة الأخيـرة وهي دعوةٌ سماوية إلى التوبة وإلى حب الله ووضع الثقة فيه قبل أي شيء آخر. ويدعو سفرُ الرؤيا القرّاء أن يعترفوا بسلطان الله ويتقدّسوا ويتوبوا ويعبدوه وحده. ويطلب السّفرُ من المؤمنين بالمسيح أن يصبروا ويتحلوا بالإيمان والشَّجاعة ويشهدوا عن يسوع حتَّـى لو تتطلب الأمر أن يُضـحُّوا بحياتهم. ويُحفّزنا السّفرُ أن نطلب ونترجى مجيءَ المسيح الثَّاني والسَّماء الجديدة والأرض الجديدة.

الوباء وبعض الدروس العملية لنا اليوم

في ضوء هذه الطرح المُوجز، نسأل: هل يحمل الوباءُ في الكتاب المقدس رسالةً روحية؟ ما هي هذه الرسالة؟ وما دور الكنيسة وسط الأوبئة؟ وثمة ملاحظات مهمة في ضوء الدراسة السَّابقة.  أولاً، الوباءُ هو أحد أعراض اضطرابات الطَّبيعية. والمسبب اللاهوتي الواضح لاضطرابات الطبيعة هو خطيئة آدم وحواء. ولا يريد اللهُ أنْ يعالج الأعراضَ فحسب بل أنْ يعالج سببها. ولهذا نفهم الأوبئةَ ضمن خطة الله الخلاصية. فلقد جاء المسيحُ ومات على الصّليب ليفدي البشر وأظهر المسيحُ حبَ الله العجيبِ. وزرع الرجاءَ بعالمٍ جديدٍ يخلو من الأوبئة والخطيئة. ثانياً، يبدو لي أنَّ الكتابَ المقدَّس من بدايته لنهايته يربط اضطرابات الطّبيعة برسالةٍ روحية، ويرتبط تصرفُ الطبيعة بجانبٍ روحي. وروحانية الطَّبيعة في الكتاب المقدس مرتبطةٌ بالدّينونة أو بالتَّحذير أو بالدَّعوة للتَّوبة أو بالتَّدخل الإلهـي في سبيل تشكيل التَّاريخ وقلب موازين القُوى. وهذا ما رأيناه عندما قلب اللهُ نظام فرعون ليؤسس شعبَ المسيح في العهد القديم. ثالثاً، يجب النَّظر إلى تفاعل الطَّبيعة مع الإنسان في ضوء طبيعة الله. فهو المُحرّر الّذي يُطالبنا بالعدالة الاجتماعية والسّياسية. وهو القدُوس الَّذي يطالبنا بالحفاظ على المعايير الأخلاقية السّليمة سواءً أكان على الصَّعيد الشَّخصي أم المجتمعي أم البيئـي. وهو الخالقُ صاحب الحق بمحاسبتنا على حبنا لله وللقريب وعلى استخدامنا للموارد بحسب مشيئته. رابعاً، لا نستطيع أن نأخذ قصةً واحدةً في الكتاب المقدس أو آية ونجعلها أساسَ تفسيرنا لما يحصل معنا اليوم، بل يجب أخذ اللاهوت الكتابي بشموليته لنستنبط بعضَ المبادئ المتعلقة بعلاقة الإنسان بالطّبيعة وبالمواقف السَّليمة الَّتي يجب أن تتنباها الكنيسة. 

وفي ضوء الدَّراسة السَّابقة وخطة الله الخلاصية ومحبته للبشر وعلاجه لمرض الخطيئة وأعراضها عندما عُلّقَ على الصَّليب، يجب أن تلتزم الكنيسة زمن الأوبئة بما يلي:

  1. تُشدّد الكنيسةُ على محبة الله ودعوته للجميع أن يعودوا إلى إحضانه
  2. تُشدّد الكنسيةُ على أهمية مشاركة الكرازة ورسالة الخلاص للجميع
  3. تُشدّد الكنسيةُ على أهمية الاهتمام بالجانب النَّفسي والرُّوحي. فتُعلِّم عن الاطمئنان في المسيح بدلاً من القلق، وعن الشَّجاعة والإيمان بدلاً من الخوف.
  4. تُشدّد الكنسيةُ على قيمة الإنسان مهما كان عُمرُه وصحتُه وجنسُه. كلُّ إنسان يستحق خدمة الكنسية وكرازتها وتضحيتها
  5. تُشدّد الكنيسةُ على تمسكها وتمسك الله بالعدالة السّياسية والاجتماعية وتطالب الرؤساءَ والدُّولَ بالتّمسك بحقوق الإنسان وبمحبة القريب
  6. تُشدّد الكنيسةُ على أهمية الصَّلاة والصُّوم والرُّجوع إلى محضر الله القدُوس. وتُقدِّم الكنيسةُ كلَّ الخضوع والكرامة لسيد الأرض والسَّماء.
  7. تفحص الكنيسةُ تصرفَها وشهادتها. وتعلن الغفرانَ وتبني العلاقات المكسورة.
  8. تشجع الكنيسةُ كلَّ الدّراسات العلمية الّتي تلتـزم بالمعايير الأخلاقية الكنسية وتسعى إلى تقديم رسالة روحية للمرضى والمحتاجين.
  9. تُقدِّم الكنيسةُ الدَّعمَ النَّفسي والمادي للمحتاجين والمهمشين وتبدأ برامجَ إغاثةٍ
  10. تُقدّم الكنيسةُ خدماتها للشُّعوب والأمم من منظورِ التَّواضع وتبتعد عن كلّ كبرياء. وتتحدى الخطايا الممنهجة الَّتي تستثمر الأموالَ والموارد في تكديس الأسلحة بدلاً من خدمة الفقراء واليتامى والأرامل والمعاقين والمهمشين. 
  11. تلتزم الكنيسةُ بكلّ ما هو صالح وبنّاء. وتسعى إلى الالتـزام بقوانين الدّولة ما دامت هذه القوانين لا تتعارض مع الله ومشيئته. 
  12. تدعم الكنيسةُ العائلات. فألم المرض والفقدان يصيب ليس المرضى فحسب بل أقربائهم أيضاً. وتعلن الكنيسةُ حبَـها وحب الله لكلّ المتألمين بالقول والعمل. 

الخاتمة

في الختام، لقد حاولت في هذا المقال أنْ أدرس علاقةَ الأوبئة بالحياة الرُّوحية. فوسّعت الفكرةَ لتشمل استخدام الله للطَّبيعة في سبيل التَّفاعل مع الإنسان. ولقد إلتـزمتُ بدراسة الكتاب المقدس وحاولتُ استنباط بعض المبادئ في ضوء هذه الدراسة. وفي الختام، علينا أن ندرك أنَّ الأوبئةَ ومشاكل الطَّبيعة بدأت منذ سقوط آدمَ وحواء ولن تنتهـي حتَّى مجيء المسيح الثَّاني. وعلينا أن ندرك أنَّ الأمراضَ والأوبئةَ ليست بالضَّرورة دليلاً على عقابِ فئةٍ ما بل علامةً على طبيعة الأرض السَّاقطة. تُعاني الطَّبيعة من الخطيئة الَّتي بدأت بآدم وحواء وتظهر علاماتُ معاناتها بهيجانها. وأحياناً تزداد هيجاناً بسبب خطايا البشر كما رأينا في التّاريخ البيبلي. ولقد جاء السّيدُ المسيح ليُغيّـر علاقةَ الطّبيعة مع البشر ولتحقيق مخطط الله في سماءٍ جديدةٍ وأرضٍ جديدةٍ. فصلاح الله يظهر في علاج مشكلة الخطيئة وليس في منع الأوبئة. يظهر صلاحُه في محبة الصَّليب وليس في منع الأوبئة. وزمن الأوبئة هو زمنُ الرّجاء والتَّحذير والتَّوبة وإظهار المحبة والرَّحمة. رجائي أن تكون هذه الدراسة خطوةً في سبيل نشر الفكر المسيحي السّليم والحب الرّباني الشُّمولي الّذي يسعى دائماً لبركة الخاطئ بدعوته للتَّوبة وبركة المؤمن بدعوته للقداسة وبركة القادة بدعوتهم للعدالة. يا رب ارحم! لله كلُّ المجد.

انقروا هنا لقراءة نص المقالة بصيغة pdf.

شاهد أيضاً

العهدة العُمريّة – بين حريّة العبادة وحريّة الضمير – بقلم القس عازر عجاج

لا ريب أنّ كلّ باحث يحاول الوصول الى فهمٍ وافٍ لما يُعرف بـ “العُهدة العمريّة“، …